الذريعة في اللغة : من ذَرَعَ، وهو أصل يدل على الامتداد ، والتحرك إلى أمام، وكل ما تفرع عن هذا الأصل يُردُّ إليه . ولها استعمالاتٌ عدة ترجع إلى هذا الأصل: فمنها: السبب؛ تقول : فلان ذريعتي إليك . بمعنى : سببي. ومنها : الوسيلة؛ فمن تذرع بذريعة ، فقد توسل بوسيلة.
فسد الذرائع : معناه : سد الطرق ، والوسائل ، التي تؤدي لأمر ما أو تكون سبباً لوقوعه، سواءٍ كانت محمودة ، أم مذمومة.(1)
وأما في الشرع فقال الإمام القرطبي في تعريفها :
"الذريعة عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه ، يخاف من ارتكابه ، الوقوع في الممنوع" (2).
وقال ابن تيمية في تعريفها :
" الذريعة ما كان وسيلة ، وطريقاً ، إلى الشيء . لكنها صارت في عُرف الفقهاء: عبارة عمَّا أفضت إلى فعلٍ محرم "(3)
وعرفها ابن رشد الجد(4) بقوله :
"الذرائع هي : الأشياء التي ظاهرها الإباحة ، ويتوصل بها إلى فعل المحظور(5)
وعلى ذلك فإن سد الذرائع هو : حسم وسائل الفساد .
سد الذرائع في الشريعة (6):
الشريعة الإسلامية وضعت لرعاية مصالح الخلق ، ففتحت كل أبواب الخير ، وأغلقت كل أبواب الشر والفساد ، بتحريمها كلَّ ما من شأنه أن يؤدي إليها ، فسدَّت ذرائع الشر ، وقطعت كل طرق الفساد.
فكل أمرٍ نهت الشريعة عنه فقد نهت عنه وعن كلِّ ما يؤدي إليه ، فلا تحرم الشريعة أمراً ثم تترك وسائله وأبوابه مفتوحة، تغري النفوس بارتيادها ، واقتحامها.
1- فالله عز وجلَّ حرم الكفر ، ثم حرم أسبابه ، ووسائله ، فنهى عن اتباع الشيطان، وعن اتخاذه ولياً ، وعن طاعته ، قال تعالى (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ)(7).
2- ونهى عن اتخاذ الكفار أولياء وبين سبحانه سبب ذلك بقوله (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ)(8) .
3- ونهى عن التشبه بهم ؛ لأن المشابهة الظاهرة ذريعة إلى الموافقة الباطنة، وعن اتخاذهم بطانة ، وعن الركون إليهم.
4- ومن ذلك أنه سبحانه ، حرم الزنا ، وحرم وسائله ، وذرائعه ، فأمر بغض البصر ، ونهى النساء عن إبداء زينتهن ، وعن التبرج ، وعن الخضوع بالقول، وعن الخلوة ، وشرع الاستئذان.
5- ومن ذلك أنه نهى عن سبِّ آلهة المشركين ، لكونه ذريعة إلى أن يسبوا الله سبحانه عدواً وكفراً ، قال تعالى (ولاتَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ)(9).
6- وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من أكبر الكبائر ( شَتْمَ الرجل والديه ) قالوا : وهل يشتم الرجل والديه ؟! قال: ( نعم ، يسبُّ أبا الرجل ، فيسبُّ أباه ، ويسبُّ أمه ، فيسب أمه)(10) .
7- وحرم الجمع بين المرأة وعمتها ، وبين المرأة وخالتها ؛ لكونه ذريعة إلى قطيعة الرحم.
8- ومنع من تجاوز أربع زوجات ؛ لكونه ذريعة ظاهرة إلى الجور ، وعدم العدل بينهن، وقصر الرجل على الأربع. وأباح الزواج مثنى وثلاث ورباع، فُسحةً ووقاية من الزنى، ولتحصيل منافع الزواج، وإن وقع من المتزوجين بأكثر من واحدة بعض الجور فاحتماله أقلُّ مفسدة من مفسدة الزنى.
9- ونهت السنة عن خروج الإنسان من المسجد ، بعد الأذان ، قبل أن يصلي ؛ حتى لا يكون خروجه ، ذريعة إلى اشتغاله عن الصلاة، أو إلى إساءة الظن به ، فمن فعل ذلك ، فقد أخذ بأسباب التلهي ، ومهد للناس سبيل الطعن فيه.
10- ومن ذلك أن النبي r نهى الوالي عن قبول الهدية(11)، وفي حكمه : القاضي، والشافع ؛ لأن ذلك ذريعة إلى فسادٍ كبير، في الحكم، وفي القضاء ، وفي الوساطة بين الناس ، فمن أهدى حاكماً ، أو غيره ، ممن بيده قضاء مصالح العامة، فقد أغراه بالظلم ، وعرَّض حقوق الخلق للضياع. (12)
11- ومن ذلك أن الشارع الحكيم، نهى أن يخطب الرجل على خِطبة أخيه، أويستام على سومه ، أو يبيع على بيعه ؛ لأن ذلك ذريعة إلى التباغض ، والتعادي بين المسلمين ، ومَنْ فعل ذلك ، فقد فتح الذريعة إلى الفرقة ، وشق طريقاً إلى العداوة. (13)
إلى غير ذلك من الأمثلة والشواهد والأدلة القاطعة التي لا تحصى ، على اعتبار هذه القاعدة ( سد الذرائع).
وكما أن هذه قاعدة شرعية وتشريعية وقانونية، فهي أيضاً قاعدة تعليمية وتربوية، يستعملها الوالدان مع أولادهما ، والمعلم مع تلاميذه، والمربي مع طلابه. كن حكيماً في إغلاق أبواب الانفلات والفوضى، وحريصاً في منع أسباب الشر والفساد، وذا نظرة مستقبلية في التحذير من طرق الضياع والانحراف.
إذا استطعت أن تمنع الوسائل التي تؤدي إلى الشر فافعل، خصوصاً عندما يكون الأولاد والطلاب في مرحلة الصغر، وإن لم يمكن فعليك بالتوعية والتحذير من استخدام هذه الوسائل والطرق استخداماً سيئاً.
الهوامش:
1- انظر : سد الذرائع في الشريعة الإسلامية : لمحمد هشام البرهاني ، ص51-60 .
2- الجامع لأحكام القرآن : للإمام الحافظ القرطبي ، .
3- مجموع فتاوى ابن تيمية ، 3/139 .
4- أبو الوليد محمد بن أحمد ابن رشد القرطبي المالكي(450-520هـ) الإمام العلامة شيخ المالكية، قال ابن بشكوال : كان فقيهاً عالماً حافظاً للفقه مقدماً على جميع أهل عصره . من تصانيفه (المقدمات لأوائل كتب المدونة) و (البيان والتحصيل ..). ترجمته في الديباج المذهب 1/278 ، وسير أعلام النبلاء 19/501.
5- المقدمات : لابن رشد الجد 2/198 . نقلاً من سد الذرائع : لمحمد هشام البرهاني، ص75 .
6- انظر في ذلك : سد الذرائع : لمحمد بن هشام البرهاني ، وإغاثة اللهفان : لابن القيم ، 1/531-551 . والموافقات للإمام الشاطبي .
7- سورة فاطر : 6 .
8- سورة النساء : من الآية 89 .
9- سورة الأنعام : من الآية 108 .
10- أخرجه مسلم 1/92 حـ90 .
11- حديث ابن اللتبية استعمل رسول الله رجلاً على صدقات بني سليم يدعى ابن اللتبية ، فلما جاء حاسبه قال : هذا مالكم وهذا هدية . فقال رسول الله r : ( فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقاً) رواه البخاري 6/2559 حـ6578 ، ومسلم 3/1463 حـ1832.
12- سد الذرائع : لمحمد هشام البرهاني ، ص 254 .
13- المرجع السابق ، ص 257