عندما كنت أقرأ قديماً في قصص "ألف ليلة وليلة" كنت أتمتع فيها بأمرين، الخيال الجامح الذي يجاوز المنطق، والنهايات السعيدة لحكاياتها، وهو نهج القصص والروايات القديمة كما في حكايات جداتنا وأمهاتنا، عكس المزاج القصصي الحديث الذي يفضل النهايات الحزينة أو الغامضة أو بلا نهاية حتى.
إلا أن هذه النهايات السعيدة تختم دائماً بالعبارة المشهورة "حتّى أتاهُم هادمُ اللّذّاتِ وَمُفَرِّقَ الجَماعاتِ..". ومع ذلك لا تعكر هذه الخاتمة على حلاوة الحكايات ومتعتها لأن الموت يأتي هنا في سياقه القدري الملازم للحياة الدنيا.
معظم الناس ينفرون من الحديث عن الموت، وعن كل ما يذكرهم به، ويشترك في هذا النفور والقلق المتدينون وغير المتدينين وإن اختلفت الأسباب. مع أن الجميع يعلمون أنه أمر محتوم وقدر معلوم ومصير لابد منه، وهو الحقيقة الكبرى التي يشترك كل الناس في الإيمان والتسليم بها (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ )، فجميع الخلق مردهم إلى الله، وكل نفس مهما طال عمرها لا بد أن يصيبها الموت (وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القيامة (.
أما الشعراء فرغم أنهم لا يميلون في شعرهم للحزن والبكاء، إلا أن الشجون والمشاعر المرتبطة بالموت تفرض عليهم الأنغام الحزينة والمبكية لشعرهم، اقرأ مثلاً قصيدة ابن الرومي وهو يرثي ابنه الذي مات صغيراً، والتي تُعتبر غرة القصائد في الرثاء وفيها يقول:
بكاؤكُما يشْفي وإن كان لا يُجْدي
فجُودا فقد أوْدَى نَظيركُمُا عندي
بُنَيَّ الذي أهْدَتْهُ كَفَّايَ للثَّرَى
فَيَا عِزَّةَ المُهْدَى ويا حَسْرة المُهدِي
ألا قاتَل اللَّهُ المنايا ورَمْيَها
من القَوْمِ حَبَّات القُلوب على عَمْدِ
تَوَخَّى حِمَامُ الموتِ أوْسَطَ صبْيَتي
فلله كيفَ اخْتار وَاسطَةَ العِقْدِ
على حينَ شمْتُ الخيْرَ من لَمَحَاتِهِ
وآنَسْتُ من أفْعاله آيةَ الرُّشدِ
طَوَاهُ الرَّدَى عنِّي فأضحَى مَزَارُهُ
بعيداً على قُرْب قريباً على بُعْدِ
لقد أنْجَزَتْ فيه المنايا وعيدَها
وأخْلَفَتِ الآمالُ ما كان من وعْدِ
لقَد قلَّ بين المهْد واللَّحْد لُبْثُهُ
فلم ينْسَ عهْدَ المهْد إذ ضُمَّ في اللَّحْدِ
تَنَغَّصَ قَبْلَ الرِّيِّ ماءُ حَياتِهِ
وفُجِّعَ منْه بالعُذُوبة والبَرْدِ
عداد الموت !!
في أيامنا هذه (أيام الكورونا) صار الموت مثل الغمامة السوداء التي ظللت العالم، والكل يخاف من الاصابة بالبلل، ولأول مرة- وياللعجب- قامت بعض الجامعات والمراكز المختصة بوضع عداد متفاعل لأعداد الموتى.
في الأيام الأولى للمرض كان كثير من الناس يظلون يحدقون في هذا العداد ربما لساعات يتابعون أعداد المرضى وأعداد المتعافين و(أعداد الموتى) الذين يتزايدون لحظة بلحظة في جميع أنحاء العالم. بدأ العداد بالمئات ثم بالآلاف ثم بعشرات الآلاف ثم بمئات الآلاف .. ثم المليون الأول فالمليون الثاني والآن تعدى العداد ثلث المليون الثالث..
كان الناس يموتون بمثل هذه الأعداد أو أقل أو أكثر، ولا أحد يهتم بهذه الإحصائيات، لكن هذا الوباء عم العالم كله بمصيبته حتى صار البعض يموت خوفاً من الموت بسببه.
مرت مراحل في بعض المناطق كانت المعضلة الكبرى التي تواجههم كيف يدفنون الموتى أو كيف يتخلصون من جثثهم !!
في اليمن ليس هناك أي أهمية أو اهتمام بهذا العداد .. الكورونا هي آخر اهتمامات اليمنيين..
الحدث الأهم ..
كل إنسان منا يمر بأحداث مهمة وأساسية في حياته، ويتابعها كعلامات بارزة في تاريخه مثل التخرج من المدرسة أو الجامعة أو بدء العمل في مهنته أو الزواج أو الإنجاب أو الترقي والاعتزال.. وغير ذلك من الأحداث المرتبطة بمشاعر السرور أو السعادة وتحقيق الذات .. أو بعكسها.
الموت أيضاً هو أحد هذه الأحداث، لكنه حدث من نوع آخر مختلف، حدث عنيف يوقف دورة الحياة ويكسر رتابتها، وإذا كانت الحياة سلسلة من الحوادث والتحولات فإن الموت أهمها وآخرها.. تتوقف عنده الحركة المنظورة.. وتنتهي عنده الآمال العريضة.. والتوقعات والإنجازات والآمال والمخططات..
يا من بدنياه أشتغل ،، وغره طول الأمل
ولم يزل في غفلة ،، حتى دنا منه الأجل
الموت يأتي بغتة ،، والقبر صندوق العمل
هذا المعنى عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم برسم شكل تجريدي بسيط لكنه عميق، فقد (خَطَّ خَطًّا مُرَبَّعًا، وخَطَّ خَطًّا في الوَسَطِ خَارِجًا منْهُ، وَخَطَّ خُططًا صِغَارًا إِلى هَذَا الَّذِي في الوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي في الوَسَطِ، فَقَالَ:
هَذَا الإِنسَانُ، وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطًا بِهِ وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ، وَهَذِهِ الخُطَطُ الصِّغَارُ الأَعْراضُ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذا، وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذا نَهَشَهُ هَذا). رواه البخاري
الخوف من الموت هو أمر طبيعي لدى كل الناس، لكن تتفاوت درجات الخوف. وعلماء النفس يدرسون هذا الأمر إذا تطور هذا الخوف إلى درجة مرضية وهو ما يسمونه "قلق الموت" بما يؤثر سلبياً على حياة الإنسان وسلوكه في الحياة، ورغم أن النظرة الدينية هي السائدة في تفكير الناس في الموت، إلا أن هناك زوايا مختلفة للنظر إلى الموت أو الخوف منه.
في هذا السياق قام أحد المختصين النفسيين بدراسة عن أسباب (القلق من الموت) في عدة دول عربية، ووجه لهم السؤال التالي:
يخاف كثير من الناس من الموت، ما هي بنظرك أسباب هذا الخوف؟
(يا ترى ماذا سيكون جوابك أنت ؟! )
في العينة المصرية من طلاب الجامعة ذكوراً (82) وإناثاً (12) تم استخلاص الأسباب الآتية التي تغطي جوانب متشعبة ومتنوعة دينية ونفسية واجتماعية هي:
1- الخوف من الحساب والعقاب.
2- الخوف من نهاية الحياة.
3- الخوف على الأولاد.
4- الخوف من طقوس الموت.
5- الخوف من مصير الجسد بعد الموت.
6- عدم تحقيق الأهداف قبل الموت.
7- لأن الحياة تحمل عند بعض الناس معاني جميلة.
8- الخوف من ترك ملذات الدنيا.
9- الخوف من مفارقة الناس.
10- الخوف من الانتقال إلى حياة أخرى.
11- الخوف من الوحدة.
12- الخوف من قلة الأعمال الصالحة.
13- ارتباط الموت بعوامل نفسية.
14- لموت أحد الأقارب أو الأقران في سن صغيرة.
15- الخوف من المجهول بعد الموت.
16- الخوف من ملاقاة الله سبحانه وتعالى وعدم الاستعداد للقاء.
17- الخوف من الموت قتلاً.
18- الخوف من الموت بعد مرض عضال.
19- الخوف من مفارقة الروح للجسد.
20- الخوف من أن يموت الإنسان قبل أن يؤدي العبادات وواجبات الله.
21- الخوف من مشاهدة الآخرين لاحتضار الشخص ذاته.
22- الخوف من توقيت الموت في أي لحظة مفاجئة.
23- خوفاً الموت حرقاً.
24- الخوف من الموت لضعف الإيمان.
25- الخوف أن يحزن الأحياء على من يموت.
26- لأن الموت وحش يخيف من حولي.
27- الخوف من مقابلة ملايين البشر منذ آدم وحتى قيام الساعة.
28- التشاؤم عموماً من الموت وما يسببه من حالة انقباض لنفس الفرد.
29- الخوف نتيجة عدم التقدير السليم للخير والشر.
30- الخوف من الموت لأنه يتسم بطابع حزين وهذه عادة اجتماعية.
31- الخوف من الموت نتيجة عدم الفهم الواعي لمعنى الموت.
الموت في اليمن..
هناك برنامج إعلامي مشهور يتحدث عن الجماعات القتالية عنوانه هو (صناعة الموت).
في بلادنا لم يعد هناك حاجة لصناعة الموت.. الموت في بلادنا يأتي من الأرض ويأتي من الأجواء .. من أعماق البحر ومن شواطئه .. في ضوء النهار أو في ظلام الليل.. في شمس الضحى وفي نسيم السحر..
يتربص بك الموت وأنت نائم في بيتك .. وأنت تسير في حارتك وشارعك.. في الزاوية التي تحتمي بها أو خلف النافذة التي تراقب منها..
أنت هدف للموت لو كنت نائماً في غرفتك المظلمة.. أو تسابق الضوء لتمارس الرياضة في ناديك.. أو مواظباً في مكان عملك.. أو متعبداً تصلي في مسجدك!!
على يد مقاتل أو مستهتر أو قريب أو بعيد.. بطائرة أو صاروخ أو برصاصة أو حقنة أو اسطوانة غاز تالفة.. أو سائق أهوج أو جاب متهيش أهوج .. ربما على يد طفلك وهو يعبث بسلاحك على غفلة..
يذهب الاطفال لجلب الماء أو الشراء من البقالة وقد يعودون وقد لا.. الطلاب يذهبون إلى المدارس والجامعات في مغامرة يومية وقلوب أهاليهم ترجف خوفاً عليهم حتى يرجعوا..
وعلى غير المألف في كل أنحاء العالم.. الأطفال في بلادنا هم الأكثر عرضة للموت جوعاً أو مرضاً أو قنصاً وقصفاً أو على يد مجرم مهووس أو في جبهات القتال !!!
في بلادنا حيث نعيش أكبر مأساة إنسانية في العالم وأسوأ حرب عبثية (حسب توصيف الأمم المتحدة)، يحيط بنا الموت من كل مكان.
من الجوع وسوء التغذية
من الأوبئة المنتشرة
من القصف والقنص
من الألغام والعبوات المتفجرة
من الطلقات الطائشة
حتى في الأفراح والأعراس نموت من المقذوفات النارية الراجعة
من حوادث الطرق المتزايدة
من النزاع على العقارات والحقوق والجبايات..
من الكآبة والاكتئاب والأعراض النفسية..
حتى الصيادون في البحر لم يسلموا من القصف والألغام أو الضياع والتيهان !!
تعددت الأسباب والموت واحد
في ظل كل هذه الظروف المأساوية فالتعايش مع الموت والتفكير في الرحيل عن الدنيا صار أمراً عادياً ومسوغاً تماماً.
في حين تسود ثقافة الاستشهاد وطلب الموت للمقاتلين في جبهات القتال، يتسابقون أو يساقون إلى الموت كأحد الخيارات العليا للفوز بمرتبة الشهادة، ونيل شرف الدنيا والآخرة، وشعارهم :
وإذا لم يكن من الموت بدُّ
فمن العار أن تموت جباناً
تسود لدى طائفة أخرى من الناس الذين يعيشون حياة صعبة، حالة من الإحباط واليأس وانعدام الحيلة بحيث يصبح الموت هو السبيل للنجاة من المآسي والأحوال التي يعيشونها، غماً وحزناً وجوعاً وظمأً.. أو حسرة وخيبة .. ولا نزال نسمع بين الفينة والأخرى حالات انتحار لدى بعض الشباب المحبطين أو أرباب الأسر اليائسين، لم تكن موجودة في بلادنا. ولولا القيم الدينية التي تحرم قتل النفس وتشدد في تجريمه والعقوبة عليه لتحول هذا الأمر إلى ظاهرة أكبر بكثير مما نراه. وحال هؤلاء:
كَفى بِكَ داءً أَن تَرى المَوتَ شافِيا
وَحَسبُ المَنايا أَن يَكُنَّ أَمانِيا
البقية الباقية من اليمنيين يناضلون ويكافحون بكل ما يستطيعون للاستمرار في الحياة والنجاة من الأحوال والأحداث المأساوية التي تحيط بنا من كل جانب، وخيرهم من يتضمن سعيه لإنقاذ نفسه إنقاذ من حوله.. على أمل أن نتجاوز هذه الوضع المزري لحياة أفضل مستقرة وآمنة تعمر الدنيا وتكون مزرعة للخير والنجاة في الأخرى.
إِن للآمال في أنفسِنا
لذةٌ تنعشُ منها ما ذَبل
لذةٌ يحلو بها الصبر على
غَمَرات العيشِ والخَطب الجلل